الأخبار

م. سعيد بهاء المصري يكتب : الدولة الوطنية في الوطن العربي: ممكناتها وكوابحها

م. سعيد بهاء المصري يكتب : الدولة الوطنية في الوطن العربي: ممكناتها وكوابحها
أخبارنا :  

* قراءة فكرية في ضوء النقاشات المطروحة في المؤتمر الفكري السنوي الثاني

مدخل: سياق طرح سؤال الدولة الوطنية

عاد سؤال الدولة الوطنية إلى واجهة النقاش الفكري العربي بوصفه سؤالًا مصيريًا لا يمكن تأجيله، وذلك في إطار المؤتمر الفكري السنوي الثاني بعنوان: «الدولة الوطنية: أفقًا عربيًا»، الذي انعقد برعاية سمو الأمير الحسن بن طلال في منتدى الفكر العربي.

وجاءت مناقشة هذا الموضوع في لحظة إقليمية دقيقة، تتقاطع فيها أزمات التفكك الداخلي، وتآكل الشرعية، وتراجع الثقة بين الدولة والمجتمع، إلى جانب تصاعد الضغوط والتدخلات الخارجية، بما يجعل إعادة التفكير في الدولة الوطنية ضرورة فكرية وسياسية وأخلاقية، لا مجرد استعادة لمفاهيم مرحلة ما بعد الاستقلال.

إن استحضار هذا السؤال في هذا المحفل الفكري، وبرعاية شخصية لطالما ارتبط اسمها بالدعوة إلى الدولة الجامعة، والعقد الاجتماعي، والكرامة الإنسانية، يعكس إدراكًا عميقًا بأن مستقبل العالم العربي لا يمكن أن يُبنى خارج إطار دولة وطنية قابلة للحياة، وقادرة على استيعاب مجتمعاتها وحماية سيادتها في آن واحد.

أولًا: الدولة الوطنية… بين الاتهام الجاهز والقراءة المنصفة

كثيرًا ما تُوصَف الدولة الوطنية العربية بأنها «دولة مصطنعة»، أو «نتاج استعماري محض»، ويُحمَّل هذا الوصف مسؤولية معظم الإخفاقات التي شهدتها المنطقة. غير أن هذا الطرح، رغم احتوائه على بعد تاريخي صحيح، يبقى ناقصًا إذا لم يُقارب بقراءة أكثر توازنًا وإنصافًا.

فالدولة الوطنية في الوطن العربي لم تنشأ في فراغ؛ بل سبقتها كيانات سياسية وإدارية، واستندت إلى مجتمعات لها ذاكرة وهوية مشتركة، وروابط لغوية وثقافية ودينية واقتصادية عميقة. وقد شكّلت هذه الروابط أساسًا موضوعيًا لتقبّل فكرة الدولة، ولو بصيغها الأولى غير المكتملة.

وعليه، فإن الإشكال الجوهري لم يكن في فكرة الدولة الوطنية بحد ذاتها، بل في شروط نشأتها، وأنماط إدارتها، والبيئة الإقليمية والدولية التي حوصرت ضمنها منذ اللحظة الأولى.

ثانيًا: ممكنات الدولة الوطنية في الوطن العربي

رغم كل ما يُقال عن فشل الدولة الوطنية، فإن مقوماتها لم تغب يومًا عن المجتمعات العربية.

الممكن التاريخي

الدولة الوطنية لم تكن قطيعة كاملة مع التاريخ، بل جاءت بوصفها تحوّلًا سياسيًا في شكل الحكم. وقد قبلتها المجتمعات، بدرجات متفاوتة، كإطار ناظم للحياة العامة، لا كجسم غريب بالكامل.

الممكن الاجتماعي

المجتمعات العربية غنية بتنوعها، وتملك شبكات تضامن اجتماعي قوية، وقدرة عالية على الصمود والتكيّف. المشكلة لم تكن في التعددية، بل في غياب سياسات رشيدة قادرة على إدارتها ودمجها ضمن هوية وطنية جامعة.

الممكن المؤسسي

حتى في أشد حالات الضعف والهشاشة، ظلت مؤسسات الدولة قائمة: تعليم، قضاء، إدارة عامة، وأجهزة أمنية. ما تآكل هو دور الدولة كخادمة للمجتمع وشريكة له، لا وجودها البنيوي.

الممكن القيمي

القيم العربية والإسلامية، القائمة على العدالة، والكرامة، والتكافل، واحترام الحق العام، لا تتناقض مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، بل تشكّل رافعة أخلاقية لها إذا أُحسن توظيفها ضمن عقد اجتماعي واضح.

ثالثًا: كوابح الدولة الوطنية… حيث تعثّر المشروع

في مقابل هذه الممكنات، واجهت الدولة الوطنية العربية كوابح بنيوية عميقة حالت دون اكتمالها.

الكابح التأسيسي

نشأت معظم الدول العربية دون عقد اجتماعي متوافق عليه، فسبقت الدولة المجتمع بدل أن تنبثق عنه، ما خلق فجوة شرعية لم تُردم حتى اليوم.

الكابح السياسي

احتكار السلطة، وضعف المشاركة السياسية، وغياب التداول الحقيقي، أدّت إلى تآكل الشرعية وإضعاف الثقة بين الدولة ومواطنيها.

الكابح الاقتصادي

هيمنة النماذج الريعية أو شبه الريعية، وضعف الإنتاج، وغياب العدالة في توزيع الفرص، حوّلت المواطن من شريك في التنمية إلى تابع ينتظر.

الكابح الهويّاتي

فشل الدولة في بناء هوية وطنية جامعة، فإما جرى صهر التعدد قسرًا، أو تُرك دون إطار جامع، ما أعاد إحياء الهويات ما دون الدولة كبديل عنها.

الكابح الخارجي

لم تُترك الدولة الوطنية العربية لتتطوّر طبيعيًا، بل تعرّضت باستمرار لتدخلات وضغوط وإعادة هندسة سياسية وأمنية، أضعفت سيادتها وأعاقت اكتمال مشروعها.

رابعًا: رؤية سمو الأمير الحسن… الإقليم بوصفه فضاءً حضاريًا مشتركًا

برزت خلال أعمال المؤتمر رؤية سمو الأمير الحسن بن طلال، التي تؤكد أن منطقتنا قامت، ولا تزال، على أربعة أعمدة بشرية وثقافية كبرى: العرب، والترك، والكرد، والفرس.

وفق هذه الرؤية، لا يمكن لأي دولة وطنية في منطقتنا أن تستقر أو تزدهر إذا بُنيت على إنكار هذا التعدد أو محاولة صهره قسرًا، كما لا يمكن للإقليم أن يحقق توازنًا مستدامًا إذا سادت سياسات الإلغاء أو التفوق القومي.

وتؤكد هذه المقاربة أن الدولة الوطنية المنشودة ليست دولة انغلاق، بل دولة وعي بالتاريخ والجغرافيا، قادرة على احترام التعدد، وبناء الاستقرار على التكامل لا الصراع.

إذن: الدولة الوطنية كخيار لا بديل عنه

تؤكد النقاشات التي شهدها المؤتمر أن الدولة الوطنية ليست عبئًا تاريخيًا يجب التخلص منه، ولا مرحلة عابرة يمكن تجاوزها، بل مشروع لم يكتمل بعد.

إن إنقاذ الدولة الوطنية لا يكون بهدمها أو القفز فوقها، بل بإعادة تعريفها على أسس المواطنة، والعدالة، والإنتاج، وسيادة القانون.

ومن دون ذلك، سيبقى الفراغ أخطر من الدولة الناقصة، وسيظل السؤال مفتوحًا: كيف نبني دولة تحمينا جميعًا بدل أن نلوذ بالحماية منها؟

مواضيع قد تهمك