اسماعيل الشريف يكتب : المنتصر

لا يمكنك قصف الذاكرة التي تعرف كيف تصنع القنبلة- جون كيري، وزير خارجية أميركي.
ما إن أُعلن عن وقف إطلاق النار في المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني، حتى سارعت الأطراف الثلاثة المشاركة الولايات المتحدة، وإيران، والكيان الصهيوني إلى الادعاء بتحقيق النصر. وسرعان ما اجتاحت الحمى منصات التواصل الاجتماعي؛ فأنصار إيران رأوا فيها الغالبة التي لقّنت الصهاينة درسًا قاسيًا، فيما اعتبر خصومها أنها خرجت مهزومة من الجولة. لكن إذا تجاوزنا ضباب العاطفة وتحررنا من الانحياز، فمن هو المنتصر الحقيقي في هذه المواجهة؟
حققت إيران جملة من المكاسب؛ فقد ازداد تعاطف الشعوب العربية والإسلامية معها، ورسّخت إلى حد كبير معادلة الردع، وأثبتت قدرتها على ضرب عمق الكيان وتوجيه رسائل موجعة. كما اغتنمت هذه المواجهة فرصة لتجريب ترسانتها الصاروخية وتعزيز صورتها كقوة إقليمية قادرة على الرد.
الكيان الصهيوني، من جهته، لم يخرج صفر اليدين؛ فقد نجح في تقليص حضور إيران في بعض الساحات، وأثبت امتلاكه لأقوى سلاح جوي في المنطقة، عبر تنفيذ آلاف الغارات على مواقع القيادة والبنية التحتية الإيرانية. كما حصد دعمًا دوليًا واسعًا، وقد تُمهد هذه الجولة لمزيد من اتفاقيات التطبيع مع العالم العربي.
أما الولايات المتحدة، فقد جنَت مكاسب استراتيجية لافتة؛ أضعفت إيران وعرقلت مسار برنامجها النووي، وزادت من نفوذها في المنطقة، ورفعت مبيعاتها من الأسلحة، وحاصرت تمدد الصين وروسيا. والأهم من ذلك، أنها استخدمت الكيان وحلفاءها كأدوات ردع دون الحاجة إلى الزج بقواتها البرية في أتون الصراع.
غير أن هذه المواجهة لم تخلُ من كلفة باهظة على جميع الأطراف.
فإيران تراجع نفوذها، وازدادت عزلتها، وتعرضت لضغوط دولية متصاعدة، وتضررت صورتها في عيون بعض الشعوب، مع استمرار استباحة مجالها الجوي وتغلغل الكيان فيها.
الكيان بدوره واجه موجة عداء إقليمي متصاعدة، وتآكلت صورته كقوة مطلقة في المنطقة، وأُعيد التذكير بعجزه عن خوض حروب طويلة، وأن ضيق مساحته الجغرافية سيبقى نقطة ضعف لا يمكن تجاوزها.
أما الولايات المتحدة، فبدت صورتها الأخلاقية متآكلة، وعجزت عن الحشد الفعّال لهذه المواجهة، وخدش هيبتها كقوة عالمية كبرى، خاصة بعد الضربة الإيرانية لقاعدتها في قطر ضربة اعتبرها البعض مسرحية، لكنها حملت رسالة واضحة: «نستطيع أن نبلغ قواعدكم متى نشاء.»
وهكذا، لم يتمكن أي طرف من تحقيق أهدافه المعلنة؛ لم تُنهِ إيران وجود الكيان، ولم ينجح الكيان في تغيير نظام الحكم الإيراني، ولم تستطع الولايات المتحدة القضاء على البرنامج النووي لطهران.
جاء وقف إطلاق النار طوق نجاة للجميع؛ فإيران كانت تدرك أن حربًا مفتوحة مع كيان مدعوم أميركيًا ستكون مدمّرة. والكيان تلقّى ضربات لم يعهدها من قبل، واستمرار المعركة كان سيكون وبالًا عليه. أما واشنطن، فخشيت من توسّع رقعة الحرب بانضمام حلفاء إيران، وهو ما كانت ستعجز عن احتوائه، خاصة مع احتمالات تأثيره الخطير على الاقتصاد العالمي وتهديده المباشر لمصالحها في الشرق الأوسط.
لكن لعلّ النتيجة الأبرز التي خلّفتها هذه المواجهة، هي فشل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في وقف البرنامج النووي الإيراني، رغم الوعود والتصريحات النارية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقيادات الكيان. فقد كشفت تقارير استخباراتية أن الضربات الأميركية ألحقت أضرارًا جزئية ببعض المنشآت النووية، لكنها لم تعطل البرنامج، وأن إيران تحتاج إلى نحو ستة أشهر فقط لاستئناف نشاطها بالكامل. وبيّنت صور الأقمار الصناعية أن طهران نجحت في نقل اليورانيوم المخصّب إلى مواقع سرّية، بل إن بعض التقارير تحدّثت عن نقل أجزاء من المعدات النووية إلى أماكن مجهولة قبل اندلاع الحرب.
نجحت إيران في تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، ولم تعد تفصلها سوى خطوات معدودة عن نسبة 90% اللازمة لصناعة السلاح النووي. وربما كان الدرس الأهم الذي خرجت به من هذه المواجهة أن امتلاك السلاح النووي بات بعد عون الله الضامن الوحيد لردع الخطرين الصهيوني والأميركي، اللذين لا يتوقفان. ــ الدستور