د. طارق سامي خوري يكتب : عندما يتحوّل العمل العام إلى “جميلة” على الدولة

في عمق القطاع العام، ترسّخت ظاهرة خطيرة تتجاوز حدود الأداء وتدخل في بنية التفكير.. موظف الحكومة الذي يرى نفسه غير مقدّر، فيقابل الدولة بـ”جميلة” حضوره اليومي، وبجهد باهت يتناسب بحسب اعتقاده مع راتب لا يعكس حجم ما يُطلب منه.
هذه العقلية، وإن بدت فردية في ظاهرها، إلا أنها في حقيقتها نتيجة مباشرة لتراكمات طويلة من تعامل الحكومات المتعاقبة مع موظفيها، كأنهم أرقام على كشوفات الرواتب، لا كوادر منتجة تحمل الدولة على أكتافها. والنتيجة؟ ضعف الأداء، غياب الانتماء المهني، وشعور داخلي بالغبن يغذّي التراخي.
لقد دفعت الحكومات بنفسها إلى ترسيخ هذه الذهنية، حين أهملت العدالة في التقييم، وغيّبت الحوافز، وساوت بين المجتهد والمستهتر. فصار الموظف يرى أن الجهد لا يُقابل بالتقدير، وأن الأفضلية تُمنح لا على أساس الكفاءة، بل على أساس القُرب أو الأقدمية أو التوازنات.
لكن الخطر الأكبر ليس في الأداء الباهت فقط، بل في النظرة للمسؤولية الوطنية. إذ لم يعد العمل العام يُرى كواجب تجاه الوطن والمواطن، بل كعقد تجاري, "أعطني راتبًا مجزيًا أعطك جهدًا”، متناسين أن الوظيفة في الدولة ليست سلعة، بل شرف ومسؤولية، وصلة مباشرة بين الشعب ومؤسساته.
فما الحل؟
أولاً، لا بد من إعادة الاعتبار إلى الموظف المنتج المخلص، لا بالشعارات، بل بإجراءات عملية واضحة.. ترقية عادلة، حوافز شفافة، وأمان وظيفي حقيقي قائم على الكفاءة.
ثانيًا، المطلوب ثورة إدارية في العقل الحكومي نفسه, من إدارة موارد بشرية راكدة إلى عقلية تحفّز، تطوّر، وتحاسب على أساس الأداء والنتائج لا العلاقات والمجاملات.
ثالثًا، على الدولة أن تُطلق خطابًا وطنيًا توعويًا يعيد تعريف الوظيفة العامة كموقع لخدمة الناس، لا كعقوبة يومية تنتهي آخر الشهر براتب لا يكفي.
رابعًا، لا يمكن أن تتغيّر عقلية الموظف دون أن يرى القدوة فيمن فوقه.. مدير لا يأتي متأخرًا، مسؤول يعمل أكثر مما يطلب، وقيادي يربط المكافأة بالإنجاز لا بالولاء الشخصي.
إن إعادة إحياء الروح الوطنية في القطاع العام تبدأ من إعادة الاحترام لمفهوم العمل نفسه، وتطهير العلاقة بين الموظف والدولة من مشاعر الغبن والتراخي المتبادل.
ففي النهاية، لا تنهض دولة برجال ينتظرون الراتب… بل برجال يرون في العمل العام رسالة، وفي الوظيفة واجبًا، وفي المواطن أمانة.
د. طـارق سـامي خـوري
3/7/2025