الأخبار

أ. د. ليث كمال نصراوين : الدروس القانونية المستفادة من الحرب الإسرائيلية الإيرانية

أ. د. ليث كمال نصراوين : الدروس القانونية المستفادة من الحرب الإسرائيلية الإيرانية
أخبارنا :  

بعد أن وضعت الحرب الإيرانية الإسرائيلية أوزارها وأعلن كل طرف انتصاره فيها، فإنه يجب اجراء مراجعة شاملة لأسبابها ومبرراتها وتقييم مدى كفاية النصوص القانونية الحالية في المواثيق والقرارات الدولية للتعاطي معها والحيلولة دون وقوعها في المستقبل. فالحروب المعاصرة لم تعد مقتصرة على تبادل إطلاق النار بين جيوش نظامية داخل أراضٍ محددة، بل امتد نطاقها ليشمل أشكالا جديدة أكثر شراسة وإلحاقا للضرر، أهمها الهجمات السيبرانية واستهداف المدنيين والمنشآت الحيوية، مما يعزز الحاجة إلى استخلاص الدروس ذات الصلة بالتحديات التي تواجه النظام القانوني الدولي، وتكشف في الوقت ذاته عن مكامن ضعفه.

 

فأولى الدروس القانونية المستفادة من الحرب الأخيرة يتعلق بإعادة طرح السؤال المحوري الذي يحكم العلاقات الدولية وهو مبدأ حظر استخدام القوة المسلحة بينهم. فهذه القاعدة التي كرستها المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة والتي تحظر استخدام القوة أو التهديد بين الدول، أصبح من السهل خرقها لأسباب متعددة وتحت ذرائع واهية.

 

فمبدأ حظر استخدام القوة بين الدول يعتبر من قواعد النظام العام التي لا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على ما يخالفها؛ فكل اتفاق على خلاف هذا المبدأ يعد باطلا لا قيمة قانونية له وذلك سندا لأحكام المادة (53) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، والمادة (103) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه في حال تعارض التزامات أعضاء المنظمة مع أي استحقاقات دولية أخرى، فإن العبرة تكون لالتزاماتهم الواردة في الميثاق، ومن ضمنها مبدأ تحريم استخدام القوة.

 

وقد كرست محكمة العدل الدولية هذا المبدأ في العديد من قراراتها الصادرة عنها، أهمها حكمها الصادر في قضية "نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة" عام 1986، والذي أكدت فيه على أن حظر استخدام القوة هو قاعدة عرفية ملزمة، إضافة إلى كونه التزاما واردا في نصوص الميثاق الدولي للأمم المتحدة.

 

في المقابل، فإن ميثاق الأمم المتحدة قد أوجد استثناءات على مبدأ عدم جواز استخدام القوة يتمثل بحالة الدفاع الشرعي، إذ تنص المادة (51) من الميثاق على أنه يحق الدول، فرادى أو جماعات، الدفاع عن نفسها إذا اعتدت عليها قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى حين أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ الأمن والسلم الدوليين.

 

إن الدفاع الشرعي كاستثناء يبرر للجوء إلى القوة دائما ما تتوسع الدول في تفسيره وتطبيقه، فأضحى مبررا يتم استخدامه كذريعة لتوجيه ضربات عسكرية استباقية أو وقائية، وذلك كما حدث في الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية بحجة منعها من صناعة أسلحة كيميائية، مما يوجب التفكير في إعادة صياغة المادة (51) من الميثاق لصالح فرض قيود وضوابط على استعمال هذا الحق.

 

أما الدرس القانوني الثاني المستفاد، فيتمثل في ضرورة العمل على مراجعة مبدأي التناسب والضرورة كركيزتين أساسيتين في تقييم قانونية أي رد عسكري. فكل من الجانبين الإيراني والإسرائيلي قد تمسكا بأن هجماتهما العسكرية جاءت كرد فعل على أعمال عدائية وحربية ارتكبت بحقهما، إلا أن مستوى القوة المستخدم واتساع رقعة الأهداف، يشير إلى حدوث تجاوزات تفتقر لعنصر التناسب، حيث أصابت بعض الهجمات الإسرائيلية منشآت حيوية أدت لسقوط ضحايا من المدنيين، وهو السلوك الذي يرقى إلى اعتباره جريمة حرب لغايات تطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها.

 

أما الدرس الثالث، فهو الحاجة إلى تطوير قواعد القانون الدولي المتعلقة بالهجمات السيبرانية، والتي لعبت دورا بارزا في النزاع الإيراني الإسرائيلي. فالهجوم الإسرائيلي على أنظمة إلكترونية تابعة لبنى تحتية مدنية، كالكهرباء والمياه والمستشفيات، أدى إلى إلحاق آثار إنسانية جسيمة. بالتالي، فإن غياب إطار قانوني دولي ملزم يتعلق بالفضاء السيبراني يُبقي هذا النوع من الهجمات في منطقة رمادية قانونيا، ويُعقّد مسألة إثبات المسؤولية الدولية.

 

ومن الدروس القانونية الأخرى ذات الأهمية أن الحرب الأخيرة قد أعادت تسليط الضوء على ضعف المنظومة الدولية ممثلة بالجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن في مواجهة نزاعات بهذا الحجم والخطورة. فالعجز عن إصدار قرارات ملزمة أو حتى بيان إدانة مشترك يعكس الانقسام السياسي الحاد داخل هذه المؤسسة الدولية، ويضع النظام الجماعي للأمن أمام تساؤلات وجودية حول قدرته على منع تدهور هذه الخلافات أو فرض احترام القانون الدولي.

 

كما أظهرت الحرب أيضا غيابا كاملا لمفهوم المسؤولية الدولية؛ فعلى الرغم من الأدلة الثابتة على عدم مشروعية العدوان الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية ووقوع انتهاكات جسيمة للمواثيق الدولية، فإننا لم نشهد تفعيلا حقيقيا لآليات التحقيق أو إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما يُضعف من ثقة الشعوب المتضررة بالقانون الدولي، ويكرّس ثقافة الإفلات من العقاب.

 

وفي المجمل، فإن الحرب بين إيران وإسرائيل تثبت مرة أخرى بأن قوة السلاح أقوى بكثير من قوة القانون، وبأنه يجب العمل على إعادة بناء المنظومة القانونية الدولية، ليس فقط على مستوى النصوص، بل على مستوى الإرادة الدولية لاحترامها وتطبيقها دون تمييز أو انتقائية.

مواضيع قد تهمك