الأخبار

د. خالد الشقران : سموّ الفكرة

د. خالد الشقران : سموّ الفكرة
أخبارنا :  

تمثل فكرة جولات الفريق الحكومي في المدن والقرى والبوادي والمخيمات وأماكن سكنى المواطنين في أرجاء المملكة، نقلة نوعية في فلسفة إدارة الشأن العام، خاصة وأن هذه الممارسة تسير وفق منهجية تحمل في طياتها عمقاً استراتيجياً وأبعاداً تنموية وتطويرية وإصلاحية وإنسانية.

تعكس هذه الفكرة في جوهرها إدراكاً متقدماً لمبدأ أساسي في الحكم الرشيد، وهو استحالة صنع قرارات فعالة بمعزل عن الواقع المعاش للمواطن، فالبيروقراطية والعزلة الإدارية غالباً ما تشكلان حاجزاً سميكاً يمنع وصول الصورة الحقيقية للمعاناة اليومية والتحديات الصغيرة التي تشكل مجتمعة مشاكل كبيرة، وعليه فعندما يتحرك المسؤول بنفسه إلى الساحات والأزقة والأحياء الشعبية والمناطق النائية، فإنه يكسر هذا الحاجز بشكل ملموس، إذ تتيح له هذه الخطوة الميدانية التواصل المباشر ليس فقط مع قادة المجتمع أو النخب، بل مع الإنسان العادي في?بيئته الطبيعية، حيث تظهر المشاكل بكل تفاصيلها الخام، بعيداً عن التقارير المختصرة أو الرؤى المجتزأة.

الجولات الميدانية تحقق عدة أهداف متداخلة ومترابطة، من أهمها بناء الجسور وتعزيز الثقة من خلال رؤية المسؤول وهو يتحدث وجاهياً مع الناس ويتلمس بنفسه مشكلات التعليم والصحة والبنى التحتية والخدمات الحكومية المقدمة للمواطن، وهذا يرسل رسالة قوية بأن صوت المواطن مسموع ومهم، ويعمّق الثقة بين الحكومة والمواطن. إلى جانب ذلك، تساعد هذه الجولات المسؤولَ في التعرف على المشكلات والتحديات اليومية كما يراها المواطن من أرض الواقع، وبالتالي اتخاذ قرارات تختلف عمّا يمكن اتخاذه في المكاتب، كما تسمح له برؤية التعقيدات غير المرئ?ة، والسياق الاجتماعي والاقتصادي المحيط بالمشكلة، وكيف تؤثر القرارات السابقة فعلياً على حياة الناس؛ وهو ما يقود بالنهاية إلى التشخيص الدقيق الذي يعد حجر الزاوية لأي حل ناجح.

وأهم من ذلك كله، من شأن هذه الجولات تحفيز صنع قرارات واقعية ومستدامة، فالقرارات المتخذة بناء على شكاوى مباشرة وملاحظات ميدانية تكون أكثر التصاقاً بالحاجة الفعلية وأقل عرضة للفشل، والحلول التي تنبع من فهم عميق لطبيعة المشكلة وجذورها في بيئتها الحقيقية تكون أكثر عملية وقابلية للتطبيق والاستمرار، خاصة عندما يرى المسؤول بنفسه كيف أن قراراً ما (أو عدم اتخاذ قرار) يؤثر سلباً على حياة العشرات أو المئات، فإن ذلك يخلق لديه إحساساً بالمسؤولية المباشرة ويحثّه على المتابعة والتقييم والمحاسبة، ويقلل من فجوة التنفيذ، وي?من أن الحلول لن تكون فقط حبراً على ورق وإنما تُحدث فرقاً وتغييراً ملموساً على الأرض.

باختصار، فإن ذهاب المسؤول إلى المواطن في الميدان هو استثمار في الحكم الرشيد، وتجسيد عملي لمبادئ المساءلة والشفافية والاستجابة، وأداة فاعلة لتطوير سياسات تنموية وخدمية ناجحة، خاصة وأنه يعيد الاعتبار للإنسان كغاية للتنمية وليس رقماً في إحصائية.. وفي عالم يزداد تعقيداً، تبقى هذه الممارسة دليلاً على أن القيادة المبادرة تبدأ أحياناً بخطوة بسيطة مفادها الخروج من المكتب ورؤية حقيقة الواقع المعاش للمواطن. ــ الراي

مواضيع قد تهمك