الأخبار

سارة طالب السهيل : التأهب للأوبئة كذبة العالم المريحة

سارة طالب السهيل : التأهب للأوبئة كذبة العالم المريحة
أخبارنا :  

لم تكن جائحة كوفيد-19 كارثة صحية مفاجئة، بل نتيجة متوقعة لعالم يعرف المخاطر جيدًا ويتجاهلها عمدًا. العالم لم يُفاجَأ بالوباء، بل تظاهر بالدهشة ليهرب من سؤال واحد لم يُطرح بجدية حتى الآن: من المسؤول؟

وأكتب هذا اليوم، لا من موقع المراقب البعيد، بل بصفتي واحدة من ملايين البشر الذين عاشوا تلك السنوات القلقة، وهم يراقبون كيف يمكن للخوف أن يعري أنظمة كاملة دفعة واحدة.

ويأتي هذا الطرح مع حلول اليوم العالمي للتأهب من الأوبئة، الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويُحتفل به سنويًا في السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر، ليكون محطة للتذكير بأهمية الاستعداد المبكر للأمراض العابرة للحدود. ويهدف هذا اليوم إلى تعزيز الوعي العالمي، وتشجيع الدول على الاستثمار في الوقاية والجاهزية، بدل الاكتفاء بردود الفعل بعد وقوع الكوارث الصحية.

لسنوات طويلة، جرى التعامل مع الأوبئة بوصفها أحداثًا طارئة واستثنائية، وكأنها ضربات قدرية لا علاقة لها بالسياسات العامة ولا بالخيارات الاقتصادية ولا بطريقة إدارة العالم. لكن كوفيد-19 أسقط هذا الادعاء. ما حدث لم يكن فشلًا طبيًا بقدر ما كان فشلًا في الاعتراف، وفشلًا في اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وفشلًا أخلاقيًا في توزيع المسؤولية والنجاة.

العالم لم يكن يفتقر إلى المعرفة، ولا إلى التحذيرات، ولا إلى التجارب السابقة. من الطاعون إلى الإنفلونزا الإسبانية، ومن الإيبولا إلى سارس، لم تكن الأوبئة يومًا مفاجأة كاملة. ومع ذلك، استمر السلوك نفسه: التقليل من المخاطر، تأجيل الاستثمار في الصحة العامة، التعامل مع التحذيرات العلمية بوصفها إزعاجًا، ثم البحث عن شماعة عندما تقع الكارثة.

ما كشفه كوفيد-19 بوضوح غير مسبوق هو وهم الإنسان الحديث. ذلك الإنسان الذي أقنع نفسه بأن التقدم التقني منحه حصانة، وأن السيطرة على الطبيعة مسألة وقت فقط. وأعترف هنا أنني، مثل كثيرين، كنت أظن أن العالم تعلّم من تاريخه الصحي، قبل أن أرى هذا الوهم ينهار أمام أزمة واحدة. لكن فيروسًا غير مرئي أعاد ترتيب المشهد، وذكّر الجميع بأن التقدم بلا حكمة لا يصنع أمانًا، بل يضاعف حجم السقوط.

وفي قلب هذا السقوط، تغيّر معنى الدولة القوية. لم تعد القوة تُقاس فقط بحجم الاقتصاد أو النفوذ السياسي، بل بقدرة الدولة على حماية حياة مواطنيها، وعلى اتخاذ قرار صحي مسؤول، وعلى الصدق في التواصل، وعلى الاستثمار الطويل الأمد في الإنسان لا في الصورة. دول بدت قوية اهتزت سريعًا، ودول أقل ضجيجًا أثبتت أن الصحة العامة ليست ملفًا ثانويًا، بل أساس الاستقرار الحقيقي. بل لقد أظهرت بعض الدول، ولو في نطاق محدود، أن النجاة بكرامة ممكنة عندما تُقدّم حياة الإنسان على الحسابات السياسية الضيقة، من خلال استجابات مجتمعية متماسكة أو أنظمة توزيع فعّالة، مما يجعل فشل الآخرين أكثر إيلاماً.

غير أن الامتحان الأشد لم يكن سياسيًا ولا علميًا، بل أخلاقيًا. حين ظهرت اللقاحات، انكشف العالم على حقيقته. لم يتصرف كجماعة إنسانية تواجه خطرًا مشتركًا، بل كشبكة مصالح ضيقة. احتُكرت الجرعات، وتأخرت دول كاملة عن الوصول إليها، وكأن حياة البشر درجات متفاوتة من الاستحقاق. لم يكن الأمر مجرد أرقام في تقارير، بل كان جدة في حي فقير في مومباي أو اليمن تموت وحيدة، بينما تُهمل جرعات في ثلاجات دول لم تعد تستخدمها. في تلك اللحظة، لم يكن السؤال عن فعالية اللقاح، بل عن عدالة توزيعه، وعن معنى التضامن حين يصبح مكلفًا.

وما لم يُقَل بوضوح بعد، هو أن كثيرًا من الأوبئة الحديثة لم تعد مجرد حوادث طبيعية، بل نتائج مباشرة لنظام عالمي مختلّ في إدارة الحياة. التوسع العمراني غير المنضبط، تدمير النظم البيئية، التعامل مع الحيوانات كسلع، سلاسل التوريد التي تقدّم الربح على السلامة، ونظام اقتصادي يدفع الدول إلى تأجيل الاستثمار في الصحة العامة لصالح النمو السريع. وحتى كأفراد، نساهم في هذه الدائرة بطلبنا الدائم على كل شيء، فوراً، وبتجاهلنا المتكرر للتوازن الطبيعي في سباقنا وراء الرفاهية. في هذا السياق، يصبح الوباء نتيجة منطقية، لا مفاجأة، ويغدو الحديث عن "التأهب” محاولة لمعالجة النتائج دون الاقتراب من الأسباب.

وفي هذا الفراغ بين الأسباب الحقيقية والاعتراف المؤجَّل بها، تزدهر نظريات المؤامرة. ليس بالضرورة لأن جهة ما تصنع الأوبئة عمدًا، بل لأن غياب الشفافية، وتضارب المصالح، وتاريخ استغلال الأزمات، يجعل السؤال مشروعًا في وعي الناس. وحين أستمع إلى هذا النوع من الشكوك المنتشرة بين الناس، أجد أن الخطر ليس في السؤال ذاته، بل في الصمت الطويل الذي يتركه بلا إجابة. حين يشعر البشر أن القرارات تُتخذ بعيدًا عنهم، وأن الحقيقة تُدار لا تُقال، يصبح من السهل تصديق أن هناك من يستفيد من الخوف، أو من إعادة تشكيل الأسواق، أو من فرض سياسات استثنائية باسم الطوارئ. وهنا لا تكون نظرية المؤامرة هي الخطر الأكبر، بل البيئة التي سمحت لها بأن تبدو منطقية، وربما يكون ذلك صحيحًا، وربما لا يكون، لكن الأخطر أن يظل السؤال بلا إجابة.

من هنا، يبدو الحديث المتكرر عن التأهب من الأوبئة حديثًا مريحًا، وربما مخادعًا، إذا لم يُقرَن بسؤال المسؤولية والمحاسبة. لا معنى لنظم إنذار مبكر في عالم لا يستجيب للتحذير. ولا قيمة لاستثمارات صحية إذا ظلت العدالة غائبة. ولا جدوى من الاتفاقات الدولية إذا بقيت بلا التزام أخلاقي فعلي. وهنا يكمن تناقض اليوم العالمي للتأهب نفسه: فهو قد يتحول إلى طقس سنوي نختبئ وراءه من السؤال الحقيقي، هل نستعد للوباء القادم، أم نعيد إنتاج الظروف التي تصنعه؟

التأهب الحقيقي لا يبدأ في المختبرات وحدها، بل في الاعتراف بأن ما حدث لم يكن مجرد سوء حظ. يبدأ حين تعترف الدول أن إهمال الصحة العامة خيار سياسي، وأن تهميش العلم قرار، وأن ترك الفجوة تتسع بين الغني والفقير في زمن الوباء جريمة صامتة لا يقل أثرها عن الفيروس نفسه.

اليوم يُقال إن العالم تعلّم درس كوفيد-19، لكنني، بعد كل ما كُشف، أجد صعوبة في التسليم بأن هذا الدرس قد استُوعب فعلًا. ما زالت الذاكرة قصيرة، وما زال الميل إلى النسيان أقوى من الرغبة في التغيير، وما زال الحديث عن الوباء القادم يُدار بلغة تقنية تتجنب مواجهة جوهر المشكلة.

العالم لم يخسر معركته مع الفيروس لأنه لم يجد علاجًا سريعًا، بل لأنه لم يملك شجاعة الاعتراف بالفشل. وكل حديث عن التأهب لا يبدأ من هذا الاعتراف، ليس استعدادًا للنجاة، بل استعدادًا لتكرار الكارثة. ــ الراي

مواضيع قد تهمك