د. محمد عبد الحميد الرمامنة : 1% من محتوى الإنترنت عربي… هل تنصف الثقافة الرقمية أقلياتها؟.
العدالة الرقمية ليست مجرد فكرة، بل محك لقدرتنا على احترام الهوية والصوت المختلف. يهيمن على العالم الفضاء الرقمي والخوارزميات التي تعتمد على حجم التفاعل، ويظهر سؤال محوري: هل تنصف الثقافة الرقمية أقلياتها؟ المقصود ليس فقط الأقليات الاجتماعية أو الثقافية ولا العرقية ، بل أيضًا اللغات والهويات التي تجد نفسها على هامش المشهد الرقمي العالمي
الدراسات الحديثة تشير إلى أن أكثر من 60% من مستخدمي الإنترنت من الفئات الأقل حضورًا اجتماعيًا تعرضوا لشكل من أشكال العنف الرقمي أو الاستبعاد البنيوي ، سواء عبر خطاب الكراهية، أو التنمّر الإلكتروني والابتزاز إلى التهميش الخوارزمي غير المعلن، هذه الأرقام ليست مجرد بيانات، بل دليل حي على فشل جزئي للفضاء الرقمي في حماية حقوق المستخدمين الأضعف في الوعي الرقمي.
يقف المحتوى العربي الرقمي شاهدًا حيًا على التهميش الرقمي الذي يطاول أحد أكثر اللغات انتشارًا في العالم. فرغم أن أكثر من 400 مليون شخص يتحدثون العربية، فإن حضورها الرقمي يظل ضعيفا، حيث لا يتجاوز 1% إلى 3% من مجمل المحتوى المتاح على الإنترنت. هذه الفجوة الكمية تجعل المشهد العربي باهتًا أمام زخم المحتوى العالمي.
إن ضعف الحضور العربي في الفضاء الرقمي لا يعكس فقرًا في المعرفة ولا ضمورًا في الإنتاج الفكري، بل يكشف عن غيابٍ كمّي مؤثّر يجعل المحتوى العربي خارج معادلات التعلّم العميق ومنطق الخوارزميات، ففي عالم تُشكَّل فيه المعرفة آليًا وفق كثافة البيانات وحجم التفاعل، لا يُقرأ الصوت العربي بوصفه مرجعًا، بل يُهمَل لضعف حضوره العددي. وهكذا تتقدّم سرديات الآخرين لتملأ الفراغ، فتُختزل الرواية العربية أو يُعاد تشكيلها وتشويهها خارج سياقها الثقافي والتاريخي الأصيل.
ولتجاوز هذا التهميش الرقمي، يجب اعتماد استراتيجيات واضحة لتعزيز الحضور الرقمي العربي: الاستثمار في إنتاج محتوى رقمي عربي عالي الجودة، رقمنة التراث والمعرفة الحديثة، دعم المنصات والأدوات التقنية التي تتيح السرد العربي، وتحفيز المشاركة الجماهيرية عبر المحتوى التفاعلي والتعليم الرقمي. كما يجب تعزيز التعاون بين المؤسسات الأكاديمية، الإعلامية، والمجتمع المدني لتوفير بيانات عربية غنية يمكن أن تغذي نماذج الذكاء الاصطناعي، وتجعل حضورنا الرقمي ليس فقط مرئيًا، بل مؤثر وفاعل.
تعزيز المحتوى العربي الرقمي يتطلب استعادة الحق في تعريف الذات وصياغة التاريخ والمشاركة المثمرة والفاعلة في إنتاج المعرفة الإنسانية، فالعدالة الرقمية تُقاس بقدرة الثقافة على احتضان التنوع اللغوي والمعرفي، وليس بمدى تعدد المنصات.
وفي ختام هذا المسعى، لا يمكننا فصل لغتنا وهويتنا الرقمية عن كينونتنا البشرية؛ فكل كلمة ننتجها، وكل محتوى ننشره، هو تأكيد أننا جزء من هذا العالم الرقمي، وأن صوتنا قادر على تشكيله وليس مجرد متلقي له. فالوجود الرقمي ليس مجرد رقم وإحصاء، بل مساحة لتجسيد إرادتنا، وإعادة كتابة تاريخنا ، وصناعة المستقبل الذي نريد أن نراه بلغتنا وتاريخنا وثقافتنا.