الأخبار

رمزي الغزوي : الخصومة مع الحقيقة

رمزي الغزوي :  الخصومة مع الحقيقة
أخبارنا :  

هناك قادة يفتحون نوافذ الأمل، وآخرون يقودون شعوبهم نحو العتمة. وأحيانا يظهر نوع ثالث، لا يقبل بالواقع إلا إذا صيغ وفق مزاجه. رئيس يصنع عالمه الخاص، ويطالب الجميع بأن يعيشوا داخله. دونالد ترمب هو تجسيد لهذا النموذج، حيث الحقيقة لا مكان لها إن لم تخدم الرواية، والتفكير ممنوع ما لم يكن تصفيقا.
فمثلاً، عملية «مطرقة منتصف الليل»، بكل الضجة التي رافقتها، لم تحقق ما وُعد به. البرنامج النووي الإيراني لم يُسحق، والعلماء ما زالوا يعملون، والمنشآت الحيوية بقيت قائمة أو فُرغت بوقت كاف. ومع ذلك، لم يكتف ترمب بنفي النتائج، بل هاجم من نقلها، واتهم من وثقها، وكأن الحقيقة عدو شخصي يستحق السحق.
فهل أصبح السؤال خيانة؟ والتأمل تهديدا؟ ترمب لا يبدو قادرا على تقبل واقع لا يسير وفق رغبته. في عالمه، النصر لا يكون إلا شاملا، والولاء لا يُشترط فيه الفهم، والخطأ دوما عند الآخرين.
ما نعيشه لا يعود لمسألة شخصية، بل هو خلل في بنية القيادة. حين يتحول الرئيس إلى خصم للواقع، وتصبح مؤسسات الدولة أهدافا بسبب صدقها، فنحن أمام خطر لا يهدد النظام السياسي بل يضرب أسس الوعي العام. تُمحى الحقائق، وتُستبدل بالإيماءات، وتُدفن التحليلات تحت ركام الشعارات.
ترمب لا يواجه الإعلام أو الاستخبارات بل يحارب الفكرة ذاتها: أن الحقيقة كيان مستقل، وأن الحكم لا يجب أن يُختزل في نزوة رجل يرى نفسه مرآة الدولة. المشكلة لا تكمن في انفعاله، بل في الجماهير التي تصفق دون تردد، وتُعيد ترديد كلماته وكأنها وحي لا يُرد.
نعم، قد تكون الضربة أصابت بعض الأهداف، لكن هل يكفي ذلك لطمس الأسئلة؟ هل نُخبر العالم بما حدث فعلا؟ أم نترك لرجل واحد حق كتابة الرواية من أولها إلى آخرها، بلا مراجعة ولا محاسبة؟
ربما هكذا تنهار الدول. لا من ضربة واحدة، بل من تسلل الكذب إلى قلب السلطة، ومن صمتٍ يعلو فوق كل صوت صادق. فحين تضعف الحقيقة، وتُختزل الدولة في مزاج فرد، ويُستبدل العقل بالهتاف، فإن الطريق إلى التآكل يصبح ممهدا. ما يهدد الديمقراطيات اليوم ليس العنف، بل الانزلاق البطيء نحو العمى الطوعي.
بالمجمل، التاريخ لا يرحم الأمم التي تغمض عينيها، ولا الشعوب التي تفضل الراحة على المواجهة. وحدها الأصوات التي ترفض الانصهار في الضجيج قادرة على حماية المعنى، حين يصير الصمت شريكا في السقوط. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك