د. عدلي فندح : ذهب 2025: ملاذ العالم في زمن الاضطراب

يتجاوز الذهب في عام 2025 مرحلة كونه مجرد ملاذ تقليدي، ليصبح مؤشرًا حساسًا للتوازنات الاقتصادية والسياسية العالمية. فقد تجاوز سعر الأونصة مطلع مايو 2025 حاجز 3,300 دولار، في ارتفاع تاريخي مدفوع بعوامل متعددة تتداخل فيها السياسات النقدية، التوترات الجيوسياسية، والاختلالات في سلاسل العرض.
من أبرز المحركات لهذا الصعود القياسي، هو السلوك غير المسبوق للبنوك المركزية، التي لم تكتفِ بالدفاع عن عملاتها في مواجهة ضعف الدولار، بل زادت من مشترياتها للذهب بوتيرة لافتة. الصين وروسيا وتركيا تقود هذه الموجة، مدفوعة برغبة في فك الارتباط مع النظام النقدي الدولي التقليدي. وفي الربع الأول من العام وحده، بلغت مشتريات البنوك المركزية ما يزيد على 290 طنًا، في واحدة من أعلى القيم الفصلية منذ عقود.
في المقابل، يظهر الاقتصاد العالمي مؤشرات تباطؤ واضحة، تتراوح بين تراجع النمو الصناعي في أوروبا، وتقلص الطلب في آسيا، وانعكاسات منحنى العائد في الولايات المتحدة. وبينما تعود البنوك المركزية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي، إلى خفض أسعار الفائدة، يفقد الدولار جاذبيته، ويعزز ذلك من توجه المستثمرين نحو الذهب كأصل لا يدرّ عوائد، ولكنه يوفر الحماية من المخاطر النظامية.
وعلى الصعيد السياسي، يواجه العالم تجددًا في النزاعات، لا سيما في أوكرانيا، وفلسطين، وبحر الصين الجنوبي، يضاف إليها عودة الخطاب الحمائي الأميركي الذي يقوده الرئيس ترامب، وما يرافقه من اضطرابات تجارية قد تعمق هشاشة الاقتصاد العالمي.
ورغم هذا الطلب المتصاعد، فإن جانب العرض لا يسير بوتيرة موازية. تواجه شركات التعدين ارتفاعًا في التكاليف التشغيلية، وتشديدات بيئية وضريبية، ما أدى إلى ارتفاع متوسط تكلفة استخراج الأونصة إلى ما يزيد عن 1,500 دولار. كما أن غياب الاكتشافات الكبيرة الجديدة يحد من قدرة السوق على الاستجابة، ما يضع ضغطًا تصاعديًا مستمرًا على الأسعار.
يُضاف إلى ذلك تنامي الطلب الصناعي على الذهب، خاصة في الصناعات المتقدمة والرقاقات الدقيقة، الذي ارتفع بنسبة 9% في الربع الأول من 2025، فضلًا عن عودة قوية لصناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) إلى السوق، مما يعكس ثقة مؤسسية بمتانة الاتجاه الصاعد.
في ضوء ذلك، لا تستبعد البنوك الاستثمارية الكبرى كـ UBS وGoldman Sachs وصول الذهب إلى مستويات 3,700–4,800 دولار للأونصة بنهاية العام أو مطلع 2026، خاصة في حال تصاعدت عوامل الخطر الجيوسياسي أو عادت موجات التضخم القوية.
في المحصلة، يبدو أن صعود الذهب في عام 2025 لا يعكس مجرد اضطرابات ظرفية، بل هو نتاج تحولات هيكلية في النظام النقدي العالمي، وتغيرات عميقة في سلوك الدول والمستثمرين والمؤسسات. ومع استمرار هذه الديناميكيات، يحتفظ الذهب بمكانته كأصل استراتيجي ومرآة دقيقة لمزاج الاقتصاد العالمي.
لذا، للتفاعل الذكي مع هذه التحولات، من المهم أن تتخذ الجهات المختلفة خطوات مدروسة تتماشى مع الواقع الجديد لسوق الذهب. بالنسبة للأفراد، يُنصح بتبني نهج استثماري متوازن، بحيث يُخصص جزء من المحافظ الاستثمارية للذهب، سواء عبر الشراء المباشر أو من خلال الأدوات المالية المرتبطة به، مع الحرص على عدم الانجرار وراء المضاربات قصيرة الأجل، بل اعتماد الذهب كوسيلة تحوط طويلة الأمد ضد تقلبات الأسواق والتضخم والمخاطر الجيوسياسية.
أما بالنسبة للبنوك المركزية والحكومات، فإن المرحلة تقتضي إعادة تقييم دور الذهب في الاحتياطيات الرسمية، خاصة في ظل تراجع الثقة بالنظام النقدي القائم على الدولار وحده. وينبغي تعزيز السياسات التي تدعم تنويع الأصول الاحتياطية، بما في ذلك تطوير أدوات مالية محلية مقومة بالذهب أو مدعومة به، وكذلك دعم الصناعات المحلية التي تعتمد على هذا المعدن، بما يخلق توازنًا بين أهداف الاستقرار النقدي والتحفيز الاقتصادي المستدام.