الأخبار

علي البلاونة : غزة الأمن القومي الأميركي

علي البلاونة : غزة الأمن القومي الأميركي
أخبارنا :  

على وقع مأساة أهلنا في غزة، تبذل إيران جهودا حثيثة عبر إتصالات إستراتيجية على أكثر من صعيد مع الولايات المتحدة والدول الغربية، بتقديمها سلسلة من الأفكار، بحثا عن مصالحها بالدرجة الأولى، وتطرح على الجانب الأميركي إمكانية عقد صفقة شاملة مقابل ضمانات الدور الإقليمي، وفي حال نجاح المفاوضات فإنه من المتوقع أن تكون الميليشيات، وحركة حماس، قربانا وأداة لتعظيم هذه المصالح.

ووفقا لخبراء مركز الدراسات الدولية فان استراتيجية الأمن القومي الأمريكية تضع الصين على رأس إهتماماتها، وتأتي روسيا بعدها من حيث الأهمية، وأن الشرق الأوسط تراجع في المعادلة الأميركية، حيث ركزت إستراتيجيتها على اتباع الوسائل الدبلوماسية – الإستخبارية التي يقودها ويليام بيرنز لضبط الصراعات وإدارتها وفقا لمتطلبات الأمن الأميركي. وذلك بتعزيز قوة الشركاء والحلفاء وإقامة نوع من التنسيق بينهما وبناء التحالفات لمواجهة التهديدات الأمنية، وعدم التورط العسكري في الشرق الأوسط.

وللأسف يغالي البعض وضمن قصور في الفهم السياسي، بأن أميركا في لحظة حرجة وأنها موزعة الإهتمام ما بين الصين وروسيا وتفلت أوروبا، ومحاولتها حرمان الصين من مناطق نفوذ حيوية قد تؤثر في معادلة السياسة الدولية، وأن الحرب حتمية بين البلدين وفقا لتنظيرات غراهام اليسون، الذي يرى بأنه عندما يكون موقع قوة عظمى كقوة مهيمنة مهددًا من قبل قوة صاعدة، فاحتمالية وقوع حرب بين القوتين ستكون كبيرة.

الصين تتحرك ببطء مدروس ومخطط لترويض النمر الأميركي بأدوات غير مباشرة، وتعتمد أسلوب السلحفاة والنفس الطويل، وشد الأطراف وتشتيت الإنتباه، وإيقاظ سبات المجتمعات، وإمتلاك عنصر المفاجأة والمخاطرة الإستراتيجية، بينما تتحرك إيران بإستعجال كون قيمتها التأثيرية تتراجع وتتآكل وعليه توظف الهواجس الأميركية من الصين وروسيا لجس النبض الأميركي، ومعرفة قوة الوضع الأمني لدول المنطقة، وما تصريحات قادة حماس وموسى أبو مرزوق التي جاءت بإيعاز وضغط إيراني إلا محاولة لإستدعاء إمكانية عقد تفاهمات مع واشنطن، أو بث الفوضى في المنطقة، وإمكانية جعل جميع المناطق ساحات لها باسم تحرير القدس، وهي بالمحصلة تهدف تعظيم أوراق المساومة بالضغط على حواف الأمن الإقليمي.

ولهذا لجأت الإستخبارات الأميركية لمراقبة ومتابعة الشأن الصيني Special China Unit وتخصيص مكاتب خاصة بعمليات التنبؤ الإستراتيجي strategic forecasting الى جانب إعتماد التنسيق الإستخباري بين دول العيون الخمس، عبر مجلس رقابة مشترك (FIORC) والذي يضم ( أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، وخارج العيون الخمس هناك أيضًا تحالفات موسعة تعرف باسم العيون التسعة وتضم دول العيون الخمس الأصلية إلى جانب دول الدنمارك وفرنسا وهولندا والنرويج، وكذلك العيون الأربعة عشر والتي تضم الى ما سبق ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا والسويد، حيث يلعب تحالف العيون دورًا حاسمًا في ترتيبات الأمن العالمي والإقليمي.

وعليه فإن طوفان غزة، وفقا لتقديرات تحالف العيون الاستخباراتية الـ 14، ليس من صناعة حماس، وأن التعمية التي حدثت لإسرائيل ولأجهزة إستخباراتها، تعاونت فيها العديد من الدول والتنظيمات، ولكن من ناحية الإستطلاع الإستخباراتي الإستباقي، فالجانب الأميركي كان متابعا ولديه معلومات كافية عن تحركات حماس ولكنه وظف كافة المعطيات لتحقيق أهدافه ايضا، ولعبت علاقات وتحالفات خفية وقديمة معقدة دورا مهما في تهيئة وترتيب سيناريوهات أبعد من غزة، مخطط لها بأن تضرب أوروبا وآسيا الوسطى، إنتقاما من الصين، ليبدو الطوفان سبيلا وطريقا مهما في إحداث تغيرات واسعة المدى وفي تشكيل القوى وإثارة هواجس النظم والولاءات والتحالفات الإقليمية والدولية.

ولأن اللعبة على مستويات إستراتيجية كبرى، لا تساوي فيه المجموعات الموالية لإيران نقطة في بحر كبير من أعمال التخطيط العميقة التي لا تقدر دول مجتمعة على مواجهتها ، فمثلا حجم الإتفاقيات الإستراتيجية الشاملة الموقعة بين دول الإتحاد الأوروبي والصين وصل الى 82 إتفاقية، مع الغالبية العظمى من دول الإتحاد بحجم إستثمارات يزيد من 850 مليار دولار، ولهذا علينا أن ننظر الى تصريحات الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل بأن التجارة بين الصين وأوروبا كبيرة والانفصال بينهما غير ممكنا، ولذا تأتي زيارة الرئيس الصيني بداية شهر مايو/أيار الجاري لدول الإتحاد الأوروبي في نطاق المنافسة الإستراتيجية، وهي منافسة ليست في أوروبا وحدها وإنما في العديد من دول العالم، ومنها أفريقيا والشرق الأوسط، وغزة، ولهذا كانت زيارة وفدي فتح وحماس الى بكين مؤخرا، وزيارة وفد كوري شمالي لإيران جزءا من مخطط أكبر تحاول فيه إيران أن تقبض ثمنه مرتين من الصين وروسيا، وفي الوقت ذاته تفاوض أميركا سرا لتقبض ثمنه اعترافا بنفوذها الإقليمي.

عمليا يقوم ويليام بيرنز بدور وجهد كبير في هندسة وإحداث ترتيبات كبرى في السياسة الأميركية، ولهذا يرى بيرنز بأن ثمة فروق كبيرة بين النصر التكتيكي والإستراتيجي، فالنصر التكتيكي عرضي وجائزة ترضية قد تؤدي تراكماته لصناعة نصر إستراتيجي، ولكن هذه التراكمات يصعب الحفاظ عليها، وتفقد ميزتها في ظل إنتصارات أو خسائر موازية، ويعني أن الحصول على نصر عسكري ممكن، لكن الإستراتيجي أعمق وأشمل ويتضمن التنمية والتحديث والمأسسة والحياة المدنية والثقافة والإعلام، وإعادة البناء والإعمار، وبناء الأمل، وإلا فان هذا النصر سيتراجع ويفقد أهميته ويستدعي مقاومته الداخلية، لنصل الى حرب أخرى مستقبلا، في حين تسعى واشنطن لوأد أية حروب خارج السيطرة، بما يضعف متابعتها وتفرغها للشأن الصيني.

وعليه يرى بيرنز أن الإعلان عن نصر إسرائيلي غير كاف، لأنه لا يؤدي الى تحقيق نصر إستراتيجي طويل المدى، كما لا يجب مكافأة حماس بالإنتصار بل يجب أن يكون له كلفة باهظة لا يمنحها القدرة بالمحافظة عليه مستقبلا، لأن ذلك سوف يعظم ويرفع سقف التوقعات الإيرانية والصينية، هذا الأمر إستنتجته الإستخبارات الأميركية من تجاربها في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وهي ليست بصدد الفشل في تجارب جديدة، وهذا يتطلب من وجهة نظرهم أهمية التفكير في المستقبل لكلا أطراف الصراع ضمن رؤية أمنية شاملة ومشتركة وفي إطار إقليمي أيضا، وهذا يتطلب نصرا تكتيكيا هشا لكل الأطراف، يسمح بضبط الصراع ويساهم بتوظيف التطرفات الصاعدة والناشئة لتحقيق النصر الإستراتيجي في مواجهة كبرى مع الصين في أوروبا وآسيا الوسطى. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك