الأخبار

الاب رفعت بدر : وما زال الدواء غائباً

الاب رفعت بدر : وما زال الدواء غائباً
أخبارنا :  

لارا جريس الصايغ، فتاة في الثامنة عشرة من العمر، عاشت منذ بدء الحرب على غزة في كنيسة اللاتين – كنيسة العائلة المقدّسة، في عائلة تقيّة ومتكلة على رحمة الرّب. توفي والدها جريس مع بدء العدوان بسبب نقص الأدويّة والمعاملة الطبيّة، فيما أصيبت لارا بشظية غير قاتلة في ذلك الوقت. أمّا شقيقها فادي جريس فقصته قصة، إذ كان يغسل الكلى ولمّا ضاقت الدنيا بوجهه، ولم يعد هنالك إمكانيّة تلقي العلاج، ذهب عن طريق الأمم المتحدة إلى رفح بصعوبة بالغة، ومن هناك توجه زميله في غسيل الكلى هاني إلى خان يونس، وتوفي فيما بعد بسبب نقص العلاج، أما فادي، فذهب بطريقة عجائبيّة إلى مصر وما زال يكمل علاجه هناك. وكان بانتظار وصول من تبقى من عائلته ليكمل معهم مشوار الحياة ودرب الصليب الطويل والثقيل.

أما الوالدة وابنتها لارا فدفعتا تسعيرة التنسيق للذهاب إلى مركز الإيواء في كنيسة غزة إلى الجنوب (وعلى كلّ شخص أن يدفع 5 آلاف دولار). لمن الدفع؟ صراحة لا أدري. لكنّ هذه التكلفة الماديّة لم تكن هي كل التضحيات، فبين دار الإيواء في كنيسة العائلة المقدّسة ورفح، قصص داميّة وموت بالمرصاد، وما يسمّى هنالك بأثر الموت، حيث لا يسمح لا لمسعفين ولا لسيارات الإسعاف من الاقتراب بحاجز إسرائيلي يسمّى ممر نتساريم، وهناك مشي على الأقدام ودرجة حرارة 42 مئوية، والفتاة تسقط غائبة عن الوعي، ما الذي حدث؟ ضربة شمس جعلت لارا تنهار بلا حراك. أمام منظر والدتها التي سقطت هي بغيبوبة من هول الصدمة وما زالت إلى اليوم.

أخبرني كاهن الرعيّة الأب يوسف أسعد، الذي ضرب خلال أشهر الدمار والحصار أجمل صورة وانقاها للراعي الصالح الأمين الذي آوى في كنيسته مئات الأشخاص وقدّم لهم أثمن شيء: الشعور بالأمان في حضرة الله والصلوات اليوميّة التي تعزي النفوس الخائفة، بالإضافة إلى جهوده الإنسانيّة النبيلة لتأمين المأكل والمشرب والماء والهواء... والدواء. أخبرني بالحزن الذي ساد قلوب المتواجدين في الكنيسة، على فقدان لارا التي عاشت معهم في الظروف الصعبة لمدة سبعة أشهر. فلم يكن والحمدلله دمار مباشر تجاه الكنيسة، لكنهم فقدوا على مدار الأشهر الماضيّة شهداء غادروا بصمت، وكان السبب الرئيسي هو قلة الحيلة بإيصال الدواء والعناية الطبيّة بالعديد منهم، فضلاً عمّن استشهدوا برصاص القناصة مثل الأم وابنتها قبيل عيد الميلاد المجيد.

كان الحلم كبيرًا بأن تلتئم العائلة في الشقيقة مصر، وقبيل ساعات قليلة من الوصول الى الوجهة المنشودة، تستشهد الشابة لارا الصايغ بنار الشمس اللاهبة، فنار الاحتلال كانت على وشك النهاية من حياتها للأبد، إلا أنّ نار الشمس مترافقة مع أوضاع إنسانيّة مترديّة على حاجز قد أوقفها وجعل منها شهيدة على ثرى فلسطين الحبيبة.

وبعد، فقد تزامن هذا الخبر المحزن للقلوب التي ما زال فيها ضمير، والمخجل للقلوب التي نشف فيها أي شعور بشري وانساني، مع الاخبار القادمة ممّا تبقّى من مستشفيات غزة وخدماتها المتردية، بأنّ عددا من الأجنّة قد تم سحبهم أحياء من بطون أمهاتهم الشهيدات اللاتي سقطن ويسقطن يوميا، من جرّاء القصف والعدوان المستمرين. وفيما يولد الأطفال بدون أمهات، وتصرخ ولا من مجيب، يسقط جريس الصايغ، على أرض الكنيسة، لنقص الأدوية والعلاجات، ويفرّ ابنه حبيبه الى مصر، بحثا عن غسيل للكلى. وفيما تحاول والدته وشقيقته اللحاق به بحثا عن الحريّة، تسقط الصغيرة شهيدة حرّ الشمس، ولا تفيق والدتها الى اليوم من غيبوبة دائمة.

هذا مثل واحد لعائلة عانت الويلات... اسوة بألوف العائلات التي ما زالت تستنجد ببقايا الضمير الانساني لينقذها من الظلم والظلام. فمن يستطيع تحمّل هذا الحمل الثقيل؟ انّ الجبال لا تقوى على تحمّل هذا. لك الله أيها الشعب الصامد والصابر، فهو تعالى وحده الدواء والطبيب الشافي. ــ الراي

مواضيع قد تهمك